1ــــ انتشرت البشارة بالإنجيل شفاهةً على مدار ربع قرن من الزمان، فعرف المؤمنون أقوال السيد المسيح وحفظوها، وسمعوا عن معجزاته وسجلوها في ذاكرة التاريخ، ولم يكُف الآباء الرُّسل الأطهار عن غرس كلمات الإنجيل في قلوب السامعين، ولم يملُّوا من ترديدها يومًا فيومًا،
– فقال بطرس الرسول: ” وَلكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقًّا مَا دُمْتُ فِي هذَا الْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِالتَّذْكِرَةِ” (2بط 1 : 13).. ،
-ولأن الإنجيل الشفاهي كان واضحًا ومعروفًا لدى الشعب، لذلك عندما كُتبت الرسائل والأناجيل، على الفور تلقفتها الأيدي واستقرت في العقول إذ لها عُمق من الإنجيل الشفاهي يعيش في داخلهم،
– وعلى الفور أقرت الكنيسة استخدامها وبذلك أقرَّت قانونيتها،
ورفضت الكنيسة كل ما يخالف التقليد المقدَّس الذي تسلمته كنزًا ثمينًا من الآباء الرسل، ودعت هذه الكتب “كتب أبو كريفا” ،
ونستطيع أن نقول أنه كان للتقليد دور هام في
استقبال كلمة الله الشفهية،
وتسجيلها فصارت مكتوبة،
والكشف عن قانونيتها، بل وتفسيرها أيضًا
– ونستطيع أن نقول أيضًا أن الأسفار المقدَّسة للعهد الجديد قد أُعطيت لنا من خلال التقليد،
فيقول “الأب چورج فلوروفسكي”: ” ففي الكنيسة وحدها يحيا الكتاب المقدَّس، ويُعلَن دون أن يُجزَّأ ويصير نصوصًا متفرقة وأمثالًا، أي أن الكتاب أُعطي في التقليد“ .
2ـــ بعد كتابة أسفار العهد الجديد، لم يقل الاهتمام بالتقليد الذي يعبر عن الشهادة الحيّة ورؤيا العيان،
حتى أن القديس بابياس أسقف هيرابوليس بآسيا الصغرى (حوالي سنة 80-160 م.)،كان يهتم بهذه البشارة الحيّة،
فيقول: ” وكلما أتى أحد ممن كان يتبع الشيوخ (الذين رأوا الرسل) سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو واحد آخر من تلاميذ الرب.. لأني لا أعتقد أن ما نحصل عليه من الكُتب يفيدني بقدر ما يصل إلىَّ من الصوت الحي، من الصوت الحي الدائم” .
– فإن اهتمام الكنيسة بالتقليد لم يفتر بعد كتابة الأسفار المقدَّسة، بل سار هذا بجوار ذاك.
3ـــ في القرون الأربعة الأولى كان التقليد واحد في شتى أرجاء المسكونة، ولم يكن هناك اختلافات أو تضاربات بين عدة تقليدات.
وقال “القديس أكليمنضس السكندري“: ” كما أن تعليم الرسل واحد فهكذا أيضًا التقليد (واحد)..” (المنوعات 7 : 17) .
4ــــ حفظ التقليد التفسير الصحيح للأسفار المقدَّسة،
ويقول “الشماس الدكتور إميل ماهر”: ” فإن الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بأنه ليس من حق كل إنسان أن يُفسر الكتاب المقدَّس حسبما يشأ، بل لا بد للمُفسر أن يلتزم في تفسيره بروح الآباء وتعليم الرسل.
فتكون له النظرة الشاملة في التفسير، المؤسسة على وحدة الكتاب المقدَّس بعهديه، والمبنية على كونه مُوحَى به من الله، وهكذا يتفادى مخاطر استخدام الآية الواحدة، فيفصّل كلمة الحق باستقامة، ويتحاشى ابتداع عقائد جديدة، ويتجنب استحداث ممارسات تتعارض مع التعليم الرسولي.
– بهذه الطريقة استطاعت الكنيسة أن تحتفظ بوحدانية الروح واستقامة التعليم.. بينما أن أولئك الذي يرفضون التسليم الرسولي ولا يلتزمون به، وينادون بمبدأ أحقية كل إنسان في تفسير الكتاب حسبما يشاء، أو حسبما يلهمه (الروح) – كما يقولون – دون تقيُّد برأي السابقين وتسليم الحواريين، وجدنا أنهم انقسموا وما زالوا ينقسمون ويتفرقون
وما أجمل قول “القديس أُغسطينوس“: ” أنا أقبل الكتاب المقدَّس مُسلَّمًا في الكنيسة مشروحًا بالآباء مُعاشًا في القديسين“،
وبدون التقليد قد يخطئ الإنسان في فهم ما هو مكتوب.
1ــ لم تلغِ الأسفار المقدَّسة التقليد، لكنها أبقت عليه حيًّا، فصارت كل من الأسفار المقدَّسة والتقليد مصدرًا للتعليم، بدون الاستغناء عن أحدهما،
+ ويقول “الأب چورج فلوروفسكي“: ” لا نقدر أن نقول أن الكتاب المقدَّس يتمتع باكتفاء ذاتي، لا لأنه ناقص أو غير تام أو غير دقيق، بل لأنه في جوهره لا يدَّعى أنه هكذا، لكن نقدر أن نقول أن الكتاب نظام أُوحَى به الله.. عندما نعلن أن الكتاب مُكتفٍ بذاته نجعله عُرضة لتفاسير غير موضوعية وكيفيَّة، ونفصله عن مصدره المقدَّس. فقد أُعطينَاه في التقليد، وهو (التقليد) مركزه الحيوي والمتبلور.. في أيام المسيحيين الأوائل لم تكن الأناجيل المصدر الأوحد للمعرفة، لأنها كانت غير مدوَّنة بعد. لكن الكنيسة عاشت وفق روح الإنجيل”.
– للتقليد صورتان:
الصورة المكتوبة: وهيَ محفوظة في أسفار الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد والمقنَّنة من قِبل الكنيسة الجامعة.
الصورة الشفاهية: وهيَ محفوظة في ذاكرة الكنيسة من جيل إلى جيل عبر: الليتورجيات – قوانين المجامع المسكونية – كتابات الآباء وحياتهم – فنون الكنيسة.
– أن الإنجيل والتقليد ليس شيئين في الإيمان المسيحي، لأن
1) التقليد المقدَّس هو مصدر للإنجيل
2) وكذلك التقليد هو الإيمان الذي يُعبر عنه الإنجيل المقدَّس،
++ ولذلك فعلاقة التقليد بالكتاب المقدَّس هيَ:
هو الذي جمع نصوص الكتاب.
وهو الذي أكدَّ قانونيتها.
وهو الذي يقوم بشرحها.
وهو الذي يحفظها كل يوم.