هل الله الحنون يمكن أن يعاقب … ؟

مقدمة:

في البداية، دعنا نوضح أن الضمير الإنساني لا يصلح أن يكون مصدرا للتعليم اللاهوتي، ولا يمكنه أن يعرف بمفرده الحقيقة اللاهوتية، وكذلك لا يمكن الحكم علي عقيدة من خلال رأي شخصي أو اجتهادات فردية، ولكن الحكم في المسائل الكتابية والعقائدية يتم من خلال كل الكتاب المقدس، الأباء الرسل وتلاميذهم، الليتورجيا، قوانين المجمع الكنسية وغيرها من مصادر العقيدة.

ويوضح الأستاذ د. موريس تواضروس في موسوعة اللاهوت العقيدي(ج1):

++ من فضلك اقرأ هذه الأيات جيدا

25 وَلِلْقَادِرِ أَنْ يُثَبِّتَكُمْ، حَسَبَ إِنْجِيلِي وَالْكِرَازَةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، حَسَبَ إِعْلاَنِ السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ،26 وَلكِنْ ظَهَرَ الآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلهِ الأَزَلِيِّ، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ، ” ( رو 16 : 25 – 26 ) .

– إن معلمنا بولس الرسول يشجع المؤمنين التحقق من شخص السيد المسيح وصدق كلامه من خلال دراسة الكتب النبوية التي تنبأت عنه.

–   إن الله هو الذي يثبتنا في الإيمان، أي أننا نقبل الإيمان ونتعرف عليه بواسطته هو، أي أنه هو الذي يجذبنا نحوه، لم يذكر بولس الرسول شيئا عن قدرتنا وذكائنا أو حكمتنا.

” وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.10 لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ، بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ،11 حَسَبَ قَصْدِ الدُّهُورِ الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.” (أف 3: 9-11).

–  معلمنا بولس الرسول يوضح أن الله أنار عينيه وعرف السر، وجد نفسه ملزمًا أن يقود الجميع لمعرفة هذا السر، سر حب الله للجميع، بل هو يكشف هذا السر حتى للسمائيين، فقد كان محجوبا عن الجميع، الكنيسة الواحدة تعلن هذا من خلال ليتورجياتها، تفسيرها للكتاب المقدس من خلال المعلمين المسوقين بالروح القدس

+ إن أخطر شيء هو أن يقوم الدين علي جانب معين من جوانب الإنسان (يهتم مثلا بالعقل أكثر من المشاعر) (يخاطب الحالمين أكثر من العقلاء مثلا).

– فالحكم في المسائل الكتابية، اللاهوتية يستلزم منا الإحتكام إلي:

– الكتاب المقدس ( بشرط أن نفهمه كما فهمته الكنيسة وعاشته )

2- تاريخ البدع والهرطقات وكيف ردت الكنيسة عليها.

3- قوانين المجامع المسكونية.

4- الليتورجيا ( التي تشرح الكثير من الأمور العقائدية)

5- تعاليم الأباء الأوائل ، التقليد الرسولي.

مما سبق لن نحكم علي أي قضية ضد الكتاب المقدس بناءا علي وجهة نظرنا أو رؤيتنا أو حتي تبعا لضميرنا الإنساني ( الذي يتشكل ويتربي طبقا لبيئتنا وثقافتنا التي نوجد فيها ).
  لكي نجيب علي سؤال هذا المقال: هل الله الحنون يمكن أن يعاقب الإنسان؟

أولا:سنطرح بعض النقاط :

1- عدل الله هو مطلب أخلاقي ضروري، وبالمثل مبدأ تساوي الفرص بين الأشرار والأبرار، إذ يجب أن يجني كل شخص ما زرعه بأعماله.


2- عدم وجود عدل الله وعقابه للأشرار سيحول الحياة إلي غابة

.
3- عدم وجود عقاب الله للأشرار سيضعنا أمام عدة أسئلة ، من بينها :
أ) ماذا عن الطوفان ( تك7 ) ؟ .
ب) عقاب الله لسدوم وعمورة ( تك 19 ) . 
ج) “«ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ،” (مت 25: 41).
28 وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. ( مت 10 : 28 ) .
د) لماذا الصليب، إن كان الله لن يعاقب؟

.4- محبة الله وحنانه نتج عنها التجسد والفداء، لكن الذين لم يؤمنوا بهذا الفداء،سيدانون

5- العقوبة لاتقاس بزمن إرتكاب الفعل، لكن بتأثير الفعل ( قضية القتل حكمها الإعدام )، هل سنقول أن الجريمة لم تستغرق سوي ثواني، فكيف يعاقب القانون هذا القاتل بعقاب تأثيره ينهي حياة القاتل، أو يتم سجنه 25 عاما أمام جريمة استغرقت دقائق؟

6- حروب العهد القديم: هي عقاب الله للشعوب الكنعانية التي عاشت في الشرور والوثنية، ولم تستجيب لأي نداءات للتوبة (عقاب بعد فرصة) ” لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِلًا». (تك 15 : 16 )

++ هل الخير الذي أفعله علي الأرض خلال عدد سنوات حياتي يستحق الأبدية السعيدة الأبدية كلها ؟

– الذي لا يؤمن بوجود العقوبة، كيف يؤمن بوجود الثواب والأبدية السعيدة؟

– يجب أن نتوقف قليلا أمام هذه الآيات :
+ ” وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. ” ( يو 3 : 19 ) .
+ ” مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، ” ( يو 12 : 48 ) .

ثانيا:مجازاة الأشرار أمر لا مفر منه:

إن مجازاة الأشرار أمر حتمي يتعلق بمصداقية الله، وأمانته بل أيضًا واجب لأُلوهيته

1)عدالة الله المطلقة:

-عدالة الله تقتضي مجازاة الأشرار بغض النظر عن انتماءات هؤلاء الأشخاص .
– إن الله هو القاضي العادل الذي ستمجده ملائكته لعدالته واستقامة قضائه في يوم الدينونة قائلين:”وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ:«عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا.” (رؤ16: 5).

2) الله صادق في أحكامه

“وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ».” (تك 2: 17).
لا مفر من تطبيق العدالة، لأن المصداقية هي أهم صفة تميز العدالة.
 فإذا افترضنا أن هناك قاضٍ يتراجع عن أحكام سبق وأصدرها، بحجة التسامح والمحبة والشفقة، فهل يصلح أن يسمى قاضيًا؟! إن أقل ما يوصف به هو الخيانة للحق وللعدالة

3) للتوبة والرحمة وقت محدد:

لابد من وقت يغلق فيه باب التوبة ليأتي دور العدالة؛ لأنه لو ظل باب التوبة مفتوحًا على الدوام لن يكون هناك عدالة إطلاقًا.
مثال: هل من المعقول أن يطلب تلميذ من ممتحن أن يترك له ورقة الإجابة دون تحديد وقت لانتهاء الامتحان، أو حسبما شاء هو بحجة الرأفة به؟!

       إن الله يقبل التائبين، ولكن لابد من غلق باب التوبة أمام الأشرار في وقت ما يحدده الله، وهذا الوقت يأتي بانتهاء زمن حياتهم الأرضية، وأيضًا بانتهاء العالم (بالنسبة للبشرية جمعاء) “مَنْ يَظْلِمْ فَلْيَظْلِمْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ نَجِسٌ فَلْيَتَنَجَّسْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ بَارٌّ فَلْيَتَبَرَّرْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ مُقَدَّسٌ فَلْيَتَقَدَّسْ بَعْدُ». «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعًا وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ.” (رؤ22: 11- 12).

4) قبول الأشرار بدون توبة:

قبول الأشرار في ملكوت السماوات في اليوم الأخير بدون توبة هو انهزام للحق وللخير، وخيبة أمل للأبرار، الذين عانوا كثيرًا من شر الأشرار: “وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ:«حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟”. (رؤ6: 10). فما هي مشاعرهم إذا جاءت ساعة العدالة، فَوَجَدوا ظالميهم أمام أعينهم، وقد أفلتوا من العدالة، ونالوا النعيم الأبدي بدون توبة علي الأرض ؟

5)استحالة مسامحة الأشرار، أو تبريرهم:

لأن ذلك يترتب عليه قبولهم في شركة ومملكة الله المقدسة، والتي سيحيا أعضائها كجسد واحد في قداسة، ودون قابلية للخطية: “وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا:«هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ.” (رؤ21: 3). فكيف يمكن أن يسمح الله بشركة للأشرار مع الأبرار داخل أورشليم السمائية، “لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟” (2كو6: 14).

أخيرا:

إن شدة جرم المخطئ تجلب عليه عقوبة أشد:

“فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟” (عب 10: 29).

لقد دفع الرب ثمنًا باهظًا ليخلصنا، ولذلك يستحق كل من رفض التوبة والنعمة المقدمة له بغفران خطاياه عقابًا شديدًا، لأنه ازدرى بدم ابن الله .

– يجب علي الذين يعترضون علي فكرة العذاب الأبدي للأشرار أن يضعوا في الإعتبار أن هناك نعيم أبدي للأبرار، فبدلا من اعتراضهم ( الذي لن يفيد ) فليبدأوا في معرفة كيف يحصلون علي الأبدية السعيدة : “لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ.” ( لو12: 32).

فالخوف من الأبدية المظلمة لا يعرفه سوي الأشرار: “فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَ فَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ”(رو13: 3).

لذا فلابد أن يكون العقاب رادعًا:

إن لم يكن عقاب الشرير المصر على خطئه رادعًا فلا فائدة منه. إن المخافة شيء نافع للبشر كقول الرب “بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا!” (لو12: 5).

المراجع :

– القس بيشوي فايق، سلسلة كتب عندي سؤال(ج2)،ط الأولي ، 2016.

القمص أنطونيوس فكري، تفسير الكتاب المقدس ( رسالة رومية).

– القمص أنطونيوس فكري، تفسير الكتاب المقدس ( رسالة أفسس).

– د. موريس تواضروس، موسوعة اللاهوت العقيدي، الجزء الأول،ط الأولي ، 1994.

– حلمي القمص يعقوب، كتاب مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد القديم من الكتاب المقدس): الجزء الثاني: مقدمة النقد الكتابي، ط الأولي، 2006.

عن Fr Philopater Magdy

ماجستير العهد القديم . تمهيدي ماجستير العلوم اللاهوتية دراسات في اللاهوت الدفاعي

شاهد أيضاً

خطايا الأنبياء وعصمتهم في الكتاب المقدس

خطايا الأنبياء وعصمتهم في الكتاب المقدس – من ضمن الأمور التي يستخدمها بعض المشككيين في …