في البداية يجب أن نوضح أمرا هاما، ان الأسفار المقدسة لها طبيعة مزدوجة فهي من جهةٍ كتاب موحى به من الله، ومن الجهة الأخرى لا تلغي شخصية الإنسان ( لذا نجد فيه تعبيرات إلهية بما يتناسب مع القدرات البشرية المحدودة في الفهم والتعبير).
1ـ الاختيار والإعداد والتكليف:
– اختار الله الرجال القديسين الذين سيسجلون الأسفار المقدسة، وأعدهم لهذه المهمة.
مثال : + تهذب موسى بكل حكمة المصريين نحو أربعين عامًا، وتعلم الهدوء والتأمل في البرية أربعين عامًا أخري فاستحق أن يدون لنا التوراة.
+ وأعد الله بولس الرسول تحت رجلي غمالائيل، ثم انفرد معه في البرية لمدة ثلاث سنوات، فاستطاع بولس أن يسجل لنا أربعة عشر رسالة.
– لقد رأي الله استعداد الكَتاب والبشيرين لقبول العمل مع الله وتسجيل الكلمة الإلهية، دفعهم الله دفعهم للكتابة دون أن يلغي شخصياتهم.
-الأفكار التي أراد الله أن تُكتب قد كُتِبت، كذا فإن الكلمات التي استخدمها الكتَّاب كانت خاضعة لحماية الله.
2ــ الروح القدس الناطق في الأنبياء:
– رافق الروح القدس كل كاتب من كتبة الأسفار المقدَّسة، فكان يرشده وينير ذهنه وينعش ذاكرته، ويعصمه من أي خطأ وارد، ويعلّمه أمور لا يعلمها، ويساعـده على انتقاء الألفاظ، فجاءت كتاباتهم صحيحة معصومة من الخطأ.
– جاء في “قانون الإيمان“: ” نعم نؤمن بالروح القدس.. الناطق في الأنبياء“، فالروح القدس هو الناطق في كتبة الأسفار المقدَّسة، هذا ما أكده الكتاب المقدس في أكثر من موضع:
+ ” لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ” (مت 1 : 15) .
+ ” كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ” (لو1 : 70).
+ قال “بطرس الرسول“: ” وَأَمَّا اللهُ فَمَا سَبَقَ وَأَنْبَأَ بِهِ بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ أَنْ يَتَأَلَّمَ الْمَسِيحُ قَدْ تَمَّمَهُ هكَذَا” (أع 3 : 18).. ” كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ..” (أع 1 : 16).
3ـــ ترك الروح القدس للكاتب حرية التعبير ولم يلغِ شخصيته:
نحن نؤمن بالنظرية الديناميكية Dynamic Theory، وحسب هذه النظرية (الديناميكية) فإن الوحي هو عمل خاص وخارق للطبيعة، من قِبل الروح القدس، وبموجبه يتغلغل الروح القدس في كل الشخصية الإنسانية للكاتب دون ضياع أو إقلال من شخصية الكاتب أو حريته.
– فالروح القدس يرتقي بالنفس الإنسانية ، يجعل ذهن الكاتب أكثر استنارة ، فإن كل كاتب من هؤلاء الكتَّاب يتكلّم لغته الخاصة ويُعبّر وفقًا لتعبيره وأسلوبه الخاص، ذلك لأن الروح القدس في وحيه يستخدم الكتَّاب ككائنات حرة عاقلة، لها إرادة ، فالكتاب يكتبون ليس من أنفسهم، ولكن من خلال توجيه وإرشاد الروح القدس لهم.
4ــ كتب رجال الله القديسون ما أرده الله بالضبط:
فالكتاب المقدَّس هو كتاب إلهي، حمل لنا أفكار الله وأقواله وأفعاله، وكل ما فيه هو ما أراد الله أن يخبرنا به بالضبط ، لذا فإن الله بنفسه هو الذي يضمن لنا عصمة الكتاب المقدس من أي أخطاء.
5ــ وضع الروح القدس النبوات على أفواه الأنبياء:
وضع الله على أفواه كتبة الأسفار نبوات، ربما لم يدركوا أعماقها بصورة كاملة .
مثلما نطق إشعياء النبي بنبوته: ” هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ” (إش 7 : 14)، فمن كان يصدق أن عذراء تحبل وتلد بدون زرع بشر؟!،
1ــ يشبه دور الكاتب في كتابة الأسفار المقدَّسة:
تشبيه المصباح الكهربائي:
– المصباح الكهربائي بدون الكهرباء لا يؤدي عمله ولا ينير لأحد، ولكن عندما نصله بمصدر كهربائي عندئذ يظهر بلمعانه ويضئ لمَن في البيت، فالكهرباء هيَ عمل الله القدوس، والمصباح يمثل الكاتب، وكما أن المصابيح تتعدد أشكالها وتتنوع ألوانها، فمنها الشكل الكمثري، أو الأنبوبي المستقيم أو الأنبوبي اللولبي، ومنها مَن يصدر لونًا فسفوريًا أو لونًا ناصع البياض.. إلخ. لكن التيار الكهربائي الذي يعمل في جميعها واحد، فتنوع المصابيح هنا يمثل تنوع الكتَّاب من جهة أعمارهم وأعمالهم وثقافاتهم ولغاتهم وشخصياتهم.. إلخ والتيار الكهربائي يمثل عمل الروح القدس.
– وجه الإعجاز في الوحي الإلهي أن يتنازل روح الله ويشارك البشر لإنجاز هذا العمل العظيم، فتظهر كلمات الله المقدَّسة في ثياب لغتنا البشرية الضعيفة، ورغم اختلاف كتبة الأسفار من جهة بيئاتهم وعلمهم وأزمانهم، ولكن جميع كتاباتهم خرجت في انسجام تام تكمل بعضها البعض. كل كاتب استخدم كافة إمكاناته فأبدع فيما كتب مستخدمًا الفنون الأدبية المختلفة وثقافته، فنُسبـت الأسفار لكتَّابها، وفي نفس الوقت نُسبت لله لأنه المصدر الرئيسي لهذا الأسفار المقدَّسة.
2- إن وجود دور أو جانب بشري في كتابة الأسفار المقدسة:
1- لا يعني أن الإنسان كتب أجزاءًا ثم أضاف الله إليها أجزاءًا أخرى.
2- ولا يعني أيضا أن الله أملى أجزاءًا وأضاف إليها الإنسان أجزاءًا أخرى.
++ أي لا يمكن تقسيم الكتاب المقدَّس إلى قسمين أحدهما سجله الإنسان (وهذا يحتمل الصح والخطأ) والثاني سجله الله (وهذا صحيح تمامًا).
3- المفهوم الصحيح أن كل كلمة سُجلت في الكتاب هي كلمة الله التي وصلت إلينا من خلال الكاتب، الذي كان خاضعًا لسيطرة وهيمنة الروح القدس.
++ ما تكلَّم به الأنبياء هو هو ما أراد الله أن يعلنه لنا، فالكتَّاب لم يكتبوا من عندياتهم. بل كتبوا ما يريده الروح القدس.
– مؤلف الكتاب هو الله بِاستخدام الأداة البشرية:
إن الكتاب هو كتاب موسى ويشوع ومرقس وغيرهم، ولكن مع ذلك فالله هو المؤلف، هو الذي يوحي، الله حينما يتكلم في الكتاب يضع في “أداته” أفكاره هو وإرادته هو، الله ينحني نحو الإنسان ليكتب كتابه.
– لكن يجب أن نوضح أن الإنسان ليس أداة مائتة كالقلم بل كائن مفكر حر، وبالتالي فهو ينقل وحي الله بكلامه هو وطريقته واستطاعته. كلام الله هو وحي الله حقًا. ولكنه يمر عبر الإنسان ويتحد بكلامه.
– أن الكتب المقدَّسة قد جاءت بنفخة الله، فهيَ تستمد في الواقع أصولها من الله.. ومن ثمَّ فالكتب المقدَّسة لم تخرج إلى الوجود لأن جماعة من عباقرة الناس، أبدعتها في لحظات وحي، أو أنشأتها لأن الله اختار أفضل ما كتب الإنسان وأضاف إليه بعض الإلهيات، أو لأنها خرجت محتوية على أفكار هيَ إلى حد ما الأفكار التي يوافق عليها الله.
++ الكتَّاب هم أداة الوحي، يسجلون ما يعلنه الوحي لهم، ولذلك كثيرًا ما كان الأنبياء يقولون ” هكذا قال الرب ” – وهذا يفسر لنا انتقال الكاتب أحيانًا من أسلوب الغائب إلى أسلوب المتكلم، لأن الكلام الذي كُتب سواء كُتب بصيغة الغائب أو كُتب بصيغة المتكلم، فهو كلام الله.
مثال: «وَالآنَ يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا، احْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي.” ( إش 5: 3).
– إشعياء يتكلم وكأنه هو الله نفسه، لكن في الحقيقة إن إشعيا أورد نفس الكلمات التي وضعها الله في فمه .
حملت الأسفار المقدَّسة طبيعة مزدوجة، إلهيَّة وبشريَّة، فالكتبة الملهمون هم قيثارات الروح القدس، وروح الله القدوس هو العازف على هذه القيثارات، لذلك فالأسفار المقدَّسة هيَ كلمة الله كُتبت بيد البشر.
قالوا عن عصمة الكتاب المقدس:
+” يجب أن نعترف بالطبيعة المزدوجة للأسفار، فهيَ من جهة، كتاب مُوحَى به من الله، ومن الجهة الأخرى لا تلغي شخصية الإنسان” “هنري نيس”.
+ ” وسيطر الله على هذا العنصر البشري للكتَّاب، فسمح بظهور طابعهم الشخصي فيما كتبوه، بينما كان يُوحي إليهم ويرشدهم بروحه القدوس وجعل هؤلاء الكتَّاب المعرضين للخطأ عند الكتابة، معصومين من أي خطأ. فالأسفار الإلهيَّة من ناحية هيَ كلمة الله بدون شك. ومن الناحية الأخرى هيَ أقوال موسى، وإشعياء، وبولس.. وفي هذه الأسفار الإلهيَّة كتبوا ما أراده الله أن يُكتَب، وقدم لنا الله من خلالهم رسالته كما أرادها أن تكون.. “أنور يسى منصور”.
+ {لا يمكن أبدًا أن يقع أي خطأ في الوحي الإلهي، فهو بطبيعته ينفي كل خطأ، بل هو ينفيه ويستبعده بنفس الضرورة التي يمتنع فيها أن يكون الله تعالى الحقيقة العليا، مصدرًا لأي خطأ}..
وإن إنكار حقيقة أن الكتاب المقدَّس هو كلمة الله يؤدي إلى إنكار أن يسوع المسيح هو كلمة الله الأزلي، لأن الكتاب المقدَّس يعلن ذاته، وإن كان الكتاب يشير إلى المسيح، فإن المسيح يشير إلى الكتاب” البابا لاون الثالث عشر .
+ ” فهمت الكنيسة طبيعة الكتاب المقدَّس مثل فهمها لشخص السيد المسيح كونه إله كامل وفي ذات الوقت إنسان كامل بدون تعارض، كذلك الكتاب هو كتاب من الله بشكل كامل، وفي نفس الوقت كتاب بشري بشكل كامل، دون أدنى تعارض، فالوحي في المفهوم المسيحي يؤكد على شخصية الكاتب، فله لغة بشرية خاصة، يونانية كانت أو عبرية، له مستوى ثقافة معين، يعيش في حضارة محدَّدة، غير أنه كتب بفعل شركة كاملة مع الروح القدس، أي أن الكاتب لم يكن في حالة غير طبيعية أو فاقدًا لوعيه، إنما كان في حالة استنارة كاملة.. “دكتور چورج فرج” .